رسالة..
" دائما وابداً، أحببتُ يدي عندما تنفذ ليدها، حتى تبدأ يدانا تهرق العَرق؛ نتيجة الالتحام، نتيجة الالتصاق، ما ينجم عن هذا الأثر الملموس سوى أننا متحابان لا نريد فراقاً، ولا نريد من الدنيا كلها إلا أن نكون بالعينين نلتقي، وبالأجساد نحتضَنِ، وبالأيادي نقْبضِ..
إنها تحتضر، وتحاول ألا تلفظ آخر أنفاسها أمامي، بيد أني اريد أن أرى كيف لدنيةٍ ملعونةٍ، ان تنزع من كل الناس ما يمثّل الناس كلهم عن نبرة الحب.. أن يصيب القدر الانسان الذي إن همد، خمد الوجود بأسره، وفي كل شيء بعدهُ يعُدُّ محاولةً لإرجاع نفس المصير الذي فنى..
تبتسم، وتجاهد ألا تغلق عينها، لعلمها أنّي أسيرٌ لعينها، ففي حضرة المَنى، يريد المرء ان يُبقي ما يزيح هموم الذي يُحِب، حتى وإن آل الحِمام يجانب بدنه..
تضحك فتعسل، لعلمها بأني اترفق على غضبي إثر ضحكتها، فما يدخل من ضحكتها ويمازجها إلا وكأنّ زقزقة العصافير رُكّبت مع ضحكة إنسان فرِح، فهي صوتٌ يُغرّد وصوتٌ يُفرّح..
تلمس اناملها برفقٍ على عُنقها وتنخل بين خصلات شعرها، فعِبْقَها يفوح عن أثَرَين أتداوي بِهما، جيْدٌ مٌلفّت وشعرٌ مُذهّب..
ارادت ان ألتمس أثرَها لآخر مرة، أن اقبض على عطر يفوح ولا ينخر عن أيادٍ قابضة، ارادت ان تؤمن أنّ في حياة الانسان الميّت معجزة، تريه إنساناً يمسكُ الريح بيده!
وأردت ان اصرخ: بلطفك لا تتركيني.. ولكنّ المرء يذوي حالاً حالما يرى، أزمةٌ أشقّ من أزْمتِه، ووقتٍ دونَ وقته، ومناةٍ في الارجاء تنكشفُ!
نطقَت وحَيَّ من نطقا، وقالت وهللا من قالا.. وحزنٌ يساري وغمٌّ يُبادي..
: لقد عِشت معك، وأكلت معك، ولعبت معك، ومضيت معك، وحزنت معك، وتعست معك، ألا ترى إنني اتكأ عليك حتى عند مماتي؟ لكنّ الأسى يدوم إن لم تمضي عني.. وما اريد هذا قط في دنياك.. أتعدني أن تعش كيفما عشنا معاً..؟
لم أرد أن أنطق، أردت ان أحِس صوتها، ولا ابدد أي نطفة تُدلي بِها، فاهها، كُنها، نفَسَهُا، كل الأشياء التي تبدر منها تُطغى علي، فلمَ احرم على نفسي شيء مما يبدر منها إبّان نهايتها؟
فدَمَعت، وهذرت على سُبلها دموعي، وجاهدت ان اكبت نحيطي، وأحْجَم ميؤس وأردَع كاسِف..
فأكملت باسمة: أعرفك، ما يعرف الأب عن أبنه، أحسّك، حسيس النار وهي تولع.. قُل لي، أتهرب عني وكُلكِ لاجئُ؟
عضضتُ يدي والتفّ وجهي والدموع تُساقِط..
ثم وهي تشهق لفَظت: أحبُّ أن اعلم أني اعرفك.. عِش يا حُبي الأبدي..
فأصبحت عيناها بعد كلمتها خواء، وجُفّت الأحرف وأُبْكِمت الكلمات، وحالت من حياةٍ لموت..
مضى على وفاتها ثلاثون عاماً، مضيت على إثرها اجوب الأرض، وانتقل من علاقة لعلاقة، من فتاة لفتاة، علّني أتنعّم بواحدةٍ تتجلى عنها "ذرّةٍ" منها..
لم يتعنّى القدر في إبداء ما أبديه في قلبي، وظلّت كل المحاولات محاولاتٍ على سدّ ثغرات النّفس، التي لا تشفى، وتبرأ على مالاَ تسفرُ فيه الشمس..
إنني اراها بين كل امرأة، أتحسس شعرها بين حضن امرأة، أرى عينها برفقة امرأة، اشتم رائحتها في عطر امرأة، لقد باتت خالدةً تأبى الانتزاع، وبسببي، أحْكَمتُ هذا الرمز الى الأبد..
تزوجت امرأة، تحمل نفس اسمها، تتلاقى في شذرةٍ من هيئتها، رقيقة لطيفة تأسر، وتعلم ما يخالجني قبل ان أفصح بِه، كانت تشبهها في مواضع كثيرة، تُذكِرني بها، ولم أستحي قط ان اناديها باسمها كما كنت انادي بها (روح)..
ولم تكن تدرك ذلك، (روح) الجديدة.. ناديتها بين زخات المطر، وهبوب الرياح، والبرد القارص.. لقد أذعن قلبها في لحظتها تلك من نبرة صوتي، حتى أدفاها من العواقب التي تزلزلنا بها.
الرعد يدوي، والناس في منازلهم، وأنا وهي، روح التي تشبه (روح) الميتة، نتلهّى بقطرات المطر، كما يلعب الطفل إبّان شجارٍ بين والديه..
إن أرواح الناس تجتمع بما تشاكِل نفوسها، وقد غدت روح الجديدة تحاكي روح القديمة على اختلافهما.. باعِثةً لي الحياة بعدَ فقدانٍ طويل.. حتى رُزقنا بفتاةٍ ضاهى جمالها بل تسامى على القمر، وإني لأحسب بعدما هبني ربي بِها، إنني اخيراً.. تجاوزت روح القديمة الى الأبد..
رفعت القمر الى القمر، فطفى قمر السماء، وظلّ نورٌ بين يداي ينير..
وبينما اتأمل قمري المنير، إذ تتجلى روح القديمة على هيئة نور بارق فتقول: أنسيتني..؟
لقد جفلت، ووهَنَت أذرُعي، وزاد وزن قمري المنير عندئذٍ، فتمادى طغيان روح القديمة حتى لاح في كل موضعٍ امشي فيه، او حتى ارمق بصري منه..
أنسيتها..؟
فعادت الآم من جديد، وانكفأت على نفسي، ورغبت عن روح الجديدة، وناف صدّي عن وليدة القمر، فادركت اني رهنت سعادتي مِن قبل في روح القديمة..
ولم أهب لنفسي القدر الذي ينبغي على المرء ان يُوهَب نفسه، فناطَ، وعُلِّقَ، ورُبِّطَ كياني كله حتى انتسب الى روح القديمة..
فصارت سعادتي من سعادتها، وتُعسي من تعاستها، ولحظتي من لحظتها، وحياتها من حياتي.. وموتها من موتي..
حينها ادركت أنه مهما سعيت، ومهما مضيت، فلا منأى عن ماضٍ تذرّعت بِه الى الأبد، الذي ينبغي ان ينتهي ببدايةِ نهايته..
موسيقى 2
حطّمت علاقتي معهم، وطافت عني الأشياء التي حُزْتُها، والتي تمسي أمنية كل إنسان في فترة من فترات حياتهم..
أضعتهم، وفي جانبي (روح)، بتُّ وحيداً، وبجانبي (روح)..
اراها في كل مكان، عند عائلتي، عملي، أصدقائي، حياتي بجلّها وبذلّها، لا تنفك عن الظهور ولا تنفك عن قول: أنسيتني؟!
لم أنساك قط..
إن العظام لتصدع في أرذل العمر، وظهري انثنى بسبب ثقل روح، وشاخ وجهي منتظراً قُبْلة ترجعهُ الى ما كان عليه.. شاباً ظريفاً مفعماً بالحياة..
روح.. أحبك..
ولكن إلى متى؟.. إلى متى لا اراها؟ وانا قابعٌ في هذه الحياة التي إن طالت وإن قصرت لم تغني عني نفسي منها شيئا!
إلى متى يا روح! إلى متى أبقي انتظرك..؟ وسائر البشر يمضون..
روح!! روح!! لم أنسك.. فهلّمي نحوي شوقاً، وارفقي مهموم وارحمي منكود..
إلا أنّ روح زمّت شفاها، ولكني اعرفها، فإن لم تبرز ملامح وجهها إثر الضوء اللمّاع، فإني أحِس بابتسامتها.. ثم بيدها، أشارت نحوها.. وتلاشى بريق ضوئها..
وبعد هذه الحادثة، لم تأتي روح بعدها أبدا..
فزاد وجعي من ذلك، فلقد تركتني حائرٌ، بعدما تركت كل الناس من أجلها..
أنا.. ضائع.. بدون روح، نازعتُ نفسي ثلاثون سنة في أن أعيش بدونها، وها انا.. تركت كل شيء مرةً أخرى.. بسببها..
ولكن.. بقي شيء واحد لم أنشد إليه.. وقد باتت إشارة يد روح دلالة على صوابه..
الموت..
مهما أبذلت، ومهما أفضيت، ومهما قضيت، إنها لحياة عافت نفسي عنها..
روح.. دارت الدنيا حتى عُدتِ إليك..
سألقاك.. بعد عناءً مديد."
آخر ما خَطّه المنتحر بقلمه..
تعليقات
إرسال تعليق