في ذمّ القُرّاء

 

موسيقى


لقد هبّ في أذهانِ الناس تصوّرٌ عجيب، يُبيّنُ نزعةٌ في ظاهرها الحق وفي باطنها الفساد، أو هي مثلبة تتظاهر بالمنقبة.

لقد بَسَط القرّاء في اذهان الناس أن الشيء بالشيء يُذكَر، وان ما يتلوهُ عليهم هو جُلَّ ما يُفطَن، فقد عَظِمَت نفوسهم حتى باتوا ينظروا للعامة نظرَةَ البصير للأعمى، والغني للفقير. سوى أن ما نالوهُ وما نهَلوه، لم يكن سوى قطْرةً من لجِّ بحرٍ عظيم.. بيْد أنهم تعاموا فعمَوا أبداً، بيْد أنهم نهجوا منهاج ضوءٍ رام بصيصه فلزِم البصيص ولم يفشى ضوءهُ أركان الحياة..

إنما يصقلُ السيف ليُضرَب، لا لأجل الزيّنة والبهاء، بل لحزِّ ما يمنع بِه البلوغ، وتؤثر بهِ النفوس، وإنه ليمدّ مداً طويلاً، وتترسخ فيه ديمومة الأعداء، وتبرق دمائهم، فكذا تاريخٌ يُكتَب وحياة تُسطَر ووجودٌ يُكشَف!

ومنهم من جارَ حتى ظَنُّ أنه فَطِن، وفار ذكائه، فانتهى الى هلاكه دونَ ادراكه، ألاَ وإنما قد تلَف الانسان بظنونهِ، وثبات ظنونهِ هو ثبات جنونه، وقد آلت ظنونه الى ثبات علْمِه، وتفلسفِ نُطْقِه، فلا يرى إلا ما يرى، وقد تشعّبت أفكار الحياة كلها وتناثرت، ولا يكاد ان يتحسس أثَرَها لِما فيهِ من آفة.. وأوشكت الرؤية ان تضمحل..

ونزَعَتْ عنهُ شخوصه فحال من كيانٍ لكيان، دارَكَتهُ يوماً فلم يعد هُوَ، فإن الكُتُب التي أُفْعِمَتْ عقله قد باتت ذاته، ولكنّ ذاته الجديدة لا توافق حال تغييره، وإنما بَعَثتْ صورةً في نفسهِ فتمنى ان يَتَلَبّسها، فتمنى ان يكون أديباً فصوّر نفسهُ اديباً، وبغى ان يكون عالمِاً فصوّر نفسهُ عالما.. فتلاشى كيانه في هذا الكيان المُتَصوّر، وتغشّت انظارهُ في النّظر من خِبْرة، وباتت نَظْرةُ خِبْرتِه مقرونة كل الاقتران في القراءة، دون تفحّص، او تمعّن، او رغبة كينونته في التحقيق لهذا الكون الآسر..

وتكَبّلَت من هذه الأقدار بصيرةٌ لا تُبصِرُ إلاَّ من كُوَّة.. فعلى قدرِ استشفاف الكُتب بكلماتها، وجُملها، وأسطُرها، تتّسع الكُوَّة، وبقدرِ ما يرى، يحس، يلمس، يحاور، يعقل، يبتسم، يضحك، يناقش.. تضيقُ الكُوَّة، فلا يفقه من الحياة شيء.. وكأنّ الحياة لا تكون ماثلةً إلا في الكُتُب، لا في ضحكة طفلٍ ولا ابتسامة محبوب..

وقد تَغَلّبَت على عقولهم تلك الكلمات، فباتوا منها لا يُفْهَمون، ولا يَفهِّمون، وصاغت الجُمَل العبارات الرنانة، فوسموا نفسهم بها، وتوشموا بسببها، حتى بلَغ منهم المُحدِّث في حديثهِ كُله، النُزَر القليل ليعقل الناس مقالته، ويفطنوا حصافته، فمن وَحشَة لوَحشَة، ومن غُربة لغُربة، حتى يطبق عليهم الجفاء المُطلق..

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سِر (قصة)

اللحظةُ المُرادة (قصة)