اللحظةُ المُرادة (قصة)

موسيقى

 

يسير رجلٌ على إحدى المسارات الخضراء والمتشبعة بجذور النباتات العالقة في أرصفة الطريق، الى ان يصل لجسرٍ تفصل مسافة قمته على النهر الخمسةُ امتار..
وقف في منتصف الجسر وظل ينظر معانياً ذبذبات النهر الهادئة، والتي تسكن في ذبذبتها كل شخصٍ ملتج..


وفي ركنٍ من اركان المشهد، دلفت امرأة نحوه حتى باتت قربه قائلة: لقد مكثت في موضعك قرابة النصف ساعة، تتأمل مالا نتأمله، وتشهد مالا نشهده، أفي ذلك المنظر الخلّاب شيئاً خارجاً عن خلابته؟
نظر الرجل لها وابتسم قائلا: بلى، إنما تتفاقم الذكريات على مواضع أحيانا، علّها كانت ذكرى رابضة في نهر، أو (نظر اليها) في بيتٍ يُحرق..
صمتت المرأة برهةً ثم: لأكون صريحة، كنت قلقة بأن تقفز..
ضحك الرجل: أقفز! وإن فعلت المسافة ليست كافية لتقتلني..
المرأة: اعلم، ولكنّ مشاعر الانسان هموم تتحكم فيه، ويقفد عقله الوعي.
الرجل: إن المنتحر يخطط في انتحاره، صدقيني إذا اردت الانتحار لن اقفز في مكان كهذا..
تبتسم المرأة: أرحت قلبي، اذاً سأتركك في سبيلك، واتأسف عن ازعاجك.
الرجل: لن أقبل اعتذارك.
المرأة: اذاً لابد ان أمضي الى شيءٍ يقبله.
الرجل بابتسامة: ما رأيك بقصة؟ قصة شِقِّ هذا الجسر (أشار الى شق مكسور في ثنايا الجسر)
نظرت المرأة الى اثار الشقوق، ودون ان تحيد طرفها عنها: اظنها عربَة..

الرجل: اجل، سيارتي بالواقع..
المرأة بصدمة: صدمت سيارتك هنا؟ وسقطت على النهر!
الرجل يؤوب بنظره الى النهر مجدداً: أجل.. أتريدين سماعها؟ كي أقبل اعتذارك!
المرأة ترمقه بنظرة فتبتسم: أودّ سماعها..
يبتسم الرجل دون ان يبعد طرفه حتى على النهر: لقد كان يوماً مُظلماً، وامطار وابلة، ورعود زاجرة، كأنّ الدنيا عندئذ أبَت ان تكون في ديدنها المحمود، مشرقةً تارة ومظلمة تارةً، في ذلك الوقت، الظلام أكل النور، وغطّ الدجى كل آمال قلبي..
المرأة: يا لها من ليلة، وإني لأظنها إنها كانت ليلة مظلمة في قلبك أيضاً..
الرجل: بلى، لقد بلعني الدجى وامتنع عن اجلائي، حتى أنّ عيني في ذلك اليوم، أسفرت عن الرؤى، وباتت الأصوات من حولي تنخفض، واحساسي بالحركة ينطمس، وروحي آن ذاك، تفتر.. كأن مصائب الحياة كلها تجلّت في يومٍ واحد.
(يتنفس الصعداء)
حتى وانا اسير في سيارتي، إذ ومض البرق فراعني وميضه، ولمحت عُقب تساقط الامطار في زجاج سيارتي، كياناً يتلألأ نوراً، فارتعبت والتففت حتى رأيت نفسي ارتطم على الجسر واهوى الى النهر..
ارتطم رأسي في مقود السيارة، وشجَّ، ولكني بقيت واعياً، سوى إن ادراكي بات في حالة خمول إثر الضربة، حتى أفقت من عيي وصرت انظر، إنني محاط بألوان زرقاء قاتمة، على نوافذِ الخمس، وعلى حياتي كلها الحائمة بين تلك الألوان، التي ما فتئت إن مددت يدي لها، اصابتني بوعرة الكتمان، كتمة الحياة..
إن أنفاسي تضطرب قبل ان تُخمد بفعل المياه، وتشتتني الوان المياه على وضوحها، حاولت فتح الباب، ولكن ضغط المياه كان قوياً، فارتأيت ان احطّم نوافذي، فبدأت اضرب، وفي اول ضربة شرعت المياه من كل صوب تغمر السيارة!، تمالكت نفسي وشرعت اضرب، واضرب، فأضرب، فأصرخ!! فأصرخ مجدداً.. حتى شقّ الزجاج وصار الشق شقين، وصار الشقين عدة شقوق، فتصاعدت الشقوق حتى تحطمت النافذة واندفعت المياه على جسدي بقوة!

 المرأة تقاطعه: يا الهي..

يكمل الرجل: فلمّا خرجت من السيارة، راقبتها وهي تغوص نحو الأسفل، مما فاجئني من عمق النهر، فنظرت الى الأعلى ولاحظت إنني بعيدٌ كل البعد عن سطحه.. ولكني في هذا اللحظة، مكثت ساكناً في مكاني، لم أدرِ لمِا ولكن شعرت.. شعرت بالسكون المطلق في مكانٍ يعجُّ بالاضطرابات، فالنهر في طيّته توجد فيه اشكال الحياة، الأسماك، المرجان، الصخور، بل حتى الاوساخ.. ولكن، لم ألمح أي من هذا، وكانت عيني لا ترمي بصرها نحو الأسفل، لإنها لن تصل، وكذلك.. عيني لا ترمي بصرها الى الأعلى.. لإنها لن تصل..
بِتُّ على موضعٍ واحد افتقد كل حركات جسدي، لا اعلم لِما لم حتى أُجابِه او أحاول ان اتحرك، لقد عجبني هذا السكون، عجبني هذا الرقود، آليتُ ان أبقى في مكانٍ قد انطوى على نفسه وصار سكوناً، وفي رحمه كل حركة، وفي باطنه كل لجوج..
أنا.. لأول مرة.. أسكن.. وانفعل مع السكون، بل تمازج جسدي بالسكون.. فمددت جسدي، وفلت يدي وكياني كله، ليبتلعه السكون..

وتنفست.. تنفست في النهر أيم الله! تنفست! ثم ابتلع نفسي السكون..
فابتلع كل شيء حتى صار كل شيء اتحسس به خاوياً، فقدت الادراك، فقدت البصر، فقدت الحس فقدت الاستماع، فقدت اللمس، فقدت الشم، فقدت التذوق فقدت الكيان.. سوى إني ما فقدت الخواء.. خواء مطلق بين يدي السكون..
إنني أعيش اعظم لحظة في حياتي، الموت.. إنّ السكون هو صدى الموت..
وفي غمرة البهجة.. إذ فجأة بشيء يسحبني الى الأعلى، فعاد كل شيء، عادت حواسي، عادت حركتي، وانقلع عني السكون..
أبيتُ ان اطلع، وقاومت ما يجذبني ولكنه كان قوياً بما يكفي لإن يرفع سيارة بحجم سيارتي..
وإذ بالنجدة تؤوم المكان، وتبسط سيطرتها فيها..
مرّ أكثر من شهر وها انا أرى نفسي في نفس البقعة..(نظر اليها) قُرب النهر.
المرأة بتعجب: يا لها من قصة.. أما ينتابك الفضول عن ذلك الشعور؟
الرجل: كل يوم..
المرأة..: يا إلهي.. لا يمكنني التخيل.. أشاركتها مع احدٍ من قبل؟!
الرجل: حتى يُقال أنني مجنون؟
المرأة: أنا اصدقك!
الرجل وهو ينظر إليها: أحس في هذا..
المرأة بحزم: أصدقك! أعني هذا..
الرجل: اريد أن.. أن.. اعيشه مجدداً.
المرأة: أعني.. من لا يريد!
وبهدوء يشير الرجل الاثار المشقوقة من الجسر: إنهم لم يصلحوها جيداً، لقد أتيت بالأمس وقبله وتبينّ إنه يمكنني اقلع بعض احجار الجسر لو ركلتها بقوة، أو دفعتها بقوة.
المرأة بحيرة: إذاً..؟

الرجل يخرج حبل فيربطه في ساقه ويربطه بسرعة على حجر الجسر: إذاً لنعيشه!
تتوتر المرأة: لا لا! ليس عليك فعلها هكذا!
فينظر الرجل لها وفي فمه سعابيل تخرج وعيناه كأنها مخدورة!: لا توجد طريقة أخرى!
فادركت المرأة انّ عقله عي، فركضت تصرخ للمارة وللسيارات التي تمر منها ان يساعدوها!
فلما انتهى من ربط الحبل في ساقه وفي الحجرة، صار يدفع الحجر بيديه بكل قوته، وصراخ المرأة يجيء ويذهب. حتى توقفت إحدى السيارات وخرج الراكب منها وعندها سمعت صوت صخرة تسقط فالتفتت فرأت حجرة الجسر سقطت والرجل على حافة الجسر يجهز للسقوط!
فصرخت المرأة للراكب: لا تدعه يسقط!
فجرى الاثنان محاولين إنقاذه ولكن الحجرة جرّته نحو الأسفل.. الى اعمق نقطة في عمق النهر..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في ذمّ القُرّاء

سِر (قصة)