ران (قصة)

  

(ران).. اسم البذلة المدرّعة التي نرتديها حالما تبرز علامات البلوغ، بدايةً من اجسادنا نهايةً الى اصواتنا..
نؤخذ من نواجذنا، ونتربّى على هِمم القادة، وعلى نهجهم، حتى نصبح على طبقة واحد تتماثل في امجادهم، أن نطّلع للعُلا مع تلك النجوم المتلألئة، في حكومة واحد لها مرامٍ مختلفة، وسياسةٍ واضحة.. (ران) الإعجاز البشري القائم على التفوق العسكري القاسي، والمؤهل للنصر أينما رسا..
 قبل ارتداء البذلة، نودّع اهالينا، ونجرّب كل ملذات الحياة شريطة ان تمسّ اجسادنا، ونأكل الأطعمة من كل صنفٍ ونوع.. كأي انسانٍ طبيعي.
وبعد ارتداء البذلة، نُمسي أناسٍ غير الناس، بأجسادٍ غير الأجساد، بعقول وقلوب كلها تكونُ مقفولة، ومفتوحةٌ لتوجيهات الأوامر فحسب..
فالتغذية تتم عبر الانانيب، والتنظيف عبر وعاء ضخم ندخل فيه فيلج بين مسامات في البذلة تخِصُّ تنظيف الجسد، إنما يتبقى الوجه عارياً دون تغطية سوى إن كنّا في مهمة او ما شابه.. ولا تُرتدى البذلة إلا في انتهاء النهج الدراسي.
يمكن ان يتساءل المرء عن توقنا لحياةٍ عادية، او ان نكون بلا (ران)، ولكن، تلك التساؤلات تتلاشى حالما نُضَع على مهمة او إفادة، او حتى تمرينٌ عاديّ في فارعة الطريق.. لأجعل لك من الأمر مشهداً ترى فيه كل شيء وتتعظ، لقد كان عدد الشباب الذين لحقوا في هذا البرنامج قرابة الخمسين، في اول عاقبة هلك عشرون، والعاقبة الثانية هلك سبعة، وتوالت أعداد الهلاك حتى بقي من بقي، ونجى من نجى، وتلألأ في أعين القادة من بزغ.. ولأخيّلك العاقبة الأولى، فلقد كان يُمهّد لنا في المناهج والتدريس، فصباحاً تمرين، الى عشراً ثمّ تدريس، فثمّ غذاء، فثمّ راحة، فثمّ تمرين عسكري، فثمّ تمرين تخطيطي واستراتيجي، فتبلغ الشمس مبلغ غروبها، ونبلغ معاً جميعاً غروبنا، طالبين النوم..
إلى ان أتت العاقبة الأولى، ووضِع الخمسين في قاعة ضخمة.. في مقدمتها منصّة صغيرة يخطب بِها أحد القادة، ويصطف من جوانبه عددٌ غفيرٌ من الجنود وجميعهم خُطّ على وجيههم بخطٍ أسود يغطي شكلهم، ويبقى لمعان أعينهم.. وجُلّ ما أتذكّر من خطاب القائد الأخير حيثُ قال: اليوم ندرك (ران) بمن هو دونهَ.. انهوا..
فتقّدم جميع الجنود وأعينهم لا تلمع إلا شرّاً، وإذ بأحدٍ منهم يسلّ سكيناً ويقبض على شعر أحد الفتيان وينحره كما تنحر البهيمة.. فيقبل الجنود علينا جميعاً لقتلنا.. فنُحِر الكثير، وعاش القليل، من دافع نجى، ومن شاخص للصراخ والخوف ولبث على هيئته هلك.. أذكر ذلك الفتى، ما فتئت مشاربه حتى بالظهور، لقد كان بارِكاً على ركبتيه، واسنانه تصطك، إنه يرى في الجندي كل ما يَرى البشر جميعَ مخاوفهم، لقد رأى عملاق يكسر الأرض بخطواته، ويحرق المكان بحدّة نظراته، رأى الخوف في أصلهِ يَهِمُّ لقتله، فسقط على جانبه، ومات على فوره، لم يمت من طعنةٍ ولا نحرة، بل مات من دنوا الخوف له..
حاربت، وقاتلت، وطُعنت.. إلى أن هجّ صوت رصاصٍ أفاق الجنود من غفلتهم، سوى لم تكن غفلتهم إلا إنهم تقهقروا بهدوء دون إنهاء القتل وإنهاء النحر.. فصرخ القائد: إنما نجعلكم أكثرُ عُرضةً للواقع، والواقع في حالتكم عاص وقاتم، أيها الفتيان، هلك من رغبنا عنه، ونجى من رغبنا بِه، و(ران) يؤخذ بالعُتا في أقصاه ما تبلغهُ الشمس في بهيجها.. لقد تجاوزتم الاختبار، ونجحتم..
فهرع الينا فجأة مجموعة أطباء، يتفحصوننا كما يُفحَص الميت لتجزئيه، وتقطيعه، وهل ينال العالِم من جسده عِلماً مفيداً..
لقد هلك معظم الفتيان نتيجة سوء العذاب النفسي الذي تملّكهم من هذا الاختبار الفج، والمميت في آن..
انا مذعور، على ذروة الذعر، ولكن، اريد الحياة كما تريدني، لا اريد الموت، وإن كنتُ لا أفقه من الحياة شيء..
أدركت أن والدتي هي من وافق على التحاقي لهذا البرنامج، بعدما كذبت عليّ قائلة إنه برنامجٌ اجباري، بل كان يُنشر بين الناس إنه اجباري.. سوى إنه لم يكن..
كرهتها في كل مرةّ اتذكرها، واشتقت إليها في كل مرة اتذكرها، أردت من العناء الواصب ان يزول في تذكري بها، وإن كانت الدنيا تترامى عليّ في كل حين، فلا تزال ذكرياتي مع أمّي حانية، وإنّ شُقَّت، وإن عُسِرت..

وفي العاقبة الثانية والأخيرة، ارتداء بذلة (ران)، لقد كانت بذلة مُدرّعة حديدية، على طولٍ قريبٍ من المترين، وعرضٍ يحمل القياس نفسهُ وأقَل..
ما إن ولجنا بداخلها، تبيّن وجود إبَرٍ صغيرة في كل موضعٍ من بذلة (ران) سوى الوجه، وحالما تغلق البذلة على اجسادنا، تقتحم الإبَر وتلج بداخلنا، فصرخت! صرخت كالبراكين، لقد كان الألم حارقاً، صرخت طالباً النجاة، بل.. صرخت طالبا الموت من سوء العذاب!
ولكن.. رأيتها.. (ديما).. لطالما ارتاحت عيناي بنظري لها، لا اعلم لِما، لقد كانت بلسماً وإن كان في تحاورنا لم نكن نخرج عن: ما العذاب غداً؟
لقد كانت تنظرُ اليّ، مُبتسمة.. لا اعرف كيف رأيتها، لم نلبس غطاء الوجه بعد، ولكن.. في ذروة العذاب، هناك.. ذلك النجم الناصع.. يبتسم، وفور تلك الابتسامة.. قابَلَتْها خواءٌ تامٌ في العينين.. فأدركت أنها ماتت من ولوج الإبر.. ولم يتحملها جسدها.. فصرخت! صرخت! صرخت والله صرخةً كانت كلها بسبب موتها! (ديما!) صرخت باسمها!: (ديما!!) لا تتركيني!! (ديما!!) ثم هوى غطاء الوجه عليّ.. وتقنّعت بهذا القناع الى هذه اللحظة التي أحدّثكم بها..

بتُّ في غيوبة قرابة السبعة أشهر، وقد هلك من الخمسون ثلاثاً واربعون، وهُلك اثنان في غيبوبتهم وتبقينا نحنُ الخمسة.. لقد تمدد جسدي وسيِقَ على تناسق البذلة، فصرتُ من طول البذلة وعرضها..
وبتُّ في داخلها منذ ذلك الحين.. لا أنكر، إنها متّعتني بقوة أكبر، وشراسة أكثر، وموتٍ يناءى وحياةٌ أجلُها بعيد..
لقد انكسرنا جميعاً في مواجعنا فلم نعد نأبه بالتحرر، ولا نعبأ بالحياة من ذاتها، وعلينا وعلى مسؤولياتنا، أن نسمع ونطيع، ونفعل ما نؤمر، إلى ان تهمد ارواحنا، ونتبدل كمشاريع عتق الزمن عنها وفنى..
مكثت بداخلها عشر سنين، من مهمة لمهمة، هدف لهدف، حتى أمسى هدفاً من اهدافي ان اقتل احد رفاقي، الذي لاذ من البرنامج في سنته التاسعة، ببذلة (ران) وإنما يخطرُ على بال الأحمق ان يلوذ بِها وهو فيها؛ فيكفي من القادة ان يكْبِسوا زِرّاً من موقعهم يقضي على راديها..
ولكن تبيّن إنه تفطّن لذلك..
لحقنا بهِ، واستطاع تفريقنا حتى صار كل واحدٍ فينا في مواقع مختلفة، إلى أن آل موقعي على غرابته إلا إنه يحمل من البُهْج ما فقدته سنين.. هضبة خضراء بالقرب من جرف يؤدي الى هاوية البحار.. لأول مرة أفكّر فيها لنفسي، ولنفسي فحسب، إنما أعتدت من توابع الأمور أن اتبع توابع الأوامر التي تخرج من افواه القادة فحسب..
اقتربت من الجرف وانا انظر الى البحار، ثم نزعت قناع (ران) عني، وزفرت الهواء من رئتي وكأنني ازفر لأول مرة، حتى ولغرابة الموقف، ابتسمت.. حتى لغرابة الموقف.. تلمسّتُ شفاهي من حيرة ابتسامتي..
المنظرُ جميل..
لقد خرج الصوت من جانبي، فالتففتُ بهدوء وإذ يتبين انّه الهارِب، ينظر الى البحار وعيناه تلمع.. ولكن.. ما صدمني، أنّه نزع بذلة (ران) عنه..
فصرخت مصدوما: كيف نزعتها؟! كيف؟!
فرفع يده وكانت ممتلئة بندوب الإبر إلى رقبته وقال: كل شيءٍ بعواقبه.. (نظر إليّ) أما آن تنزعها وتقبِل على العواقب كما كنّا نقبلها من قبل؟

لقد زاد هذا من حيرتي، ويمكن ان يتغيّر كل شيء.. الآن وإلى الأبد..
فطفقت أنظر للفراغ مذهولاً ثمّ قلت: اوامرنا تقتضي باعتقالك، او قتلك إن وُجِب..
فُسِعل الهارب، وبصق دماً، فقال: هذه عاقبةٌ أخرى. لا مهرب منها.. (ونظر اليّ مجدداً) أتذكُرَ اسمك؟

فلماّ اردت نطق اسمي إذ.. تلعثم لساني، وحُبس عن النطق، واتسعت عيني حيرةً على حيرة، فصرت اصيح بين نفسي: ما اسمي..؟
فقال الهارِب وهو ينظر في المنظر: لقد أنسونا اسماءنا حتى تبقى أسماء ما أرادوا طبْعَهُ علينا، ووسمه لنا، أترى إن سميّنا الدواب بأسماءٍ، أتراها تفقه ذاك الاسم او تدركه؟
فنظرتُ إليه حائراً، فتبسّم مدركا حيرتي وقال: لن تدركه قطّ..
فخرج من يدي سلاحاً وصوبّـته عليه، وعييت على النطق، والحديث، ولكأني نسيت الكلام بنسيان اسمي!
فقال الهارب: لقد كنتُ في نفس حالتك هذه حالما أردتُ تذكّر اسمي، ولكن هيهات، بات الأمر في مهبّ الريح، هذا الإدراك المُزرِ يجعلني حائراً، كأني اضيع الكلام، او تبقى كلماتي محددة بما افقه، أفي الكلمات حدوداً تمنع ما أصِفه؟ (أشار بيديه إلى عينه التي دمعت.. وقال بصوتٍ حنين) مثل هذا؟
بقيتُ صامتاً حتى قال: لقد صارت حياتنا طويلها يا..(صمت برهةً واكمل).. لكن طويلها بطول مكوثنا بداخل (ران) لقد أدركتُ(يمسح دمعه)، أنّ هلاكنا يمسي قريباً إذا نزعنا الــ(ران) عنّا.. اللعنة.. هذا مُحزن، ومؤسف، كل حياتنا مؤسفة ومزرية.. أترى؟ لقد كنا قيوداً منذ أن وضعنا في البرنامج اللعين (صرخ فجأة) هذا القيد اللعين! وإذا فكرنا بالحرية، وتحررنا منه، قيّدنا الموت من كل جانب.. في الحالتين نحنُ هالكين..
(ذرفت أدمعٍ كثيرةٍ منه.. فقال وهو يخطو خطوة واحدة للخلف) ولكن اقلّها سننتقم..
وإذ أرى والدتي مُقيّدة، بأكمامٍ مربوطةٍ على فاهها.. فقال: أتذكُرها؟
فُتح فاهي على فاغرٍ، وكأنه شُق بركان.. فلما هممتُ نحوها رفع سلاحهُ على رأسها قائلا: ليس الان.. أعلم اسمك، واعلم عن ديما، انتم كل ما اذكر، وكل ما اذكر عنكم (نظر الى والدتي) هُم هؤلاء.. اهاليكم.. ولكن همُ أنفُسُهم من لجأوا الى تلك البرامج متفطنين بدايتها حتى نهايتها، إذا اردت الانتقام بالفعل، فانتقم منها!
فأخرج من جيبه آلة دائرية صغيرة وقال: أو.. انزع (ران) عنك بهذا.. يمكنك إنقاذها وقتلي، ولكن بدون ان تنزع (ران)، ويمكنك ان تتركني اقتلها وتنزع (ران) عنك، فالموت قائم في كِلا الخيارين..

(ديما).. تذكرتها.. البلسم الوحيد الذي كان عاصِماً في ولوجي الى الانهيار.. تذكرتها مجدداً، انا.. تذكرتُ بسمتها..
فصرخ مقاطعاً تأملي بالمشهد والفكر: اخْتَر!! اختار هيا!! (رفع الآلة الدائرية صائحاً) ألصِقها بصدرك فحسب وانهي كل شيء!
فطمست ملامحي وباتت باردة إلا إنه.. ما برحت ابتسامة تنفك عني من تذكّرها..
فأخرج الهارب زفيراً وقال: نحو الحرية!
فقذف الالة الدائرية من جانب أمي الى العُلا، والتي ستهوي الى هاوية البحار.. فركضت! وجريت، وقد خطا الهارب خطوة للخلف وصوّب بسلاحه على رأس أمي، ونظرَ اليّ.. ولمعت عينا امي بولدها المنبوذ عن الحياة.. لكن.. تجاوزت امي وتجاوزتُ الهارب، وجُلّ عيناي كانت ترنوا نحو الالة، فسمعت رصاصةً من خلفي ولكن لم آبه، وقفزت من الهاوي لألحق الالة المدمرة لــ (ران) فلمّا قبضت عليها وانا اسقط الى السفح، الصقتها في صدري، فانقلعت بذلة (ران) سريعاً عن جسدي برمّته، بين نسيم الهواء، ونسيم الرياح، وهي تلج بداخل جلدي الباهت، اشعر ولأول مرة كأني على قيد الحياة، وعيناي تلمع أخيراً ولأول مرة، انا اتعرّى من كل شيء، ومن كل حقائق (ران) التي لبثت فيّ أمداً طويلة، اشعر بالرياح يخترق جلدي، اشعر بأشعة الشمس تخرم مسام جلدي، اسمع أصوات العصافير تزغّرد في أذني، بنقاء تام، أرى كل شيء في حضرة الموت كل شيء في حضرة الحياة، لعلّي في لحظتي هذه، أتحرر حقاً من كل المآسي، ليس لوحدي، بل برفقة ديما.

يهوى (نازِع ران) على جلاميد البحار القاسية ميّتاً، وهو عارٍ تماماً عن بذلته، سوى إنه لم يتعرّى عن بسمته..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في ذمّ القُرّاء

سِر (قصة)

اللحظةُ المُرادة (قصة)