مزجٌ يُطاق (قصة)

 رابط موسيقى  


لقد أَحَسّ امرؤ القيس بدنوا أجَلِه عند ظعنه الى القسطنطينية، بعدما مكث عند قيصر في قصره البجِل، ولمّا اطمأنت نفسه ثم ارتحل، إذ بإشاعةٍ تنتشر عنه على أنّه يَكِنُّ الحبّ لأبنة القيصر.. فضاق قيصر، وأمَر بقتله بطريقته الخاصة، فرسل سُـترةً مسمومة كهدية، فتقبّلها بقبولٍ حسن، ولبَسِها، وارتحل سفراً، دون ان يعي بقرب ارتحال أجَلِه..

فلما خابت الدنيا في عينه، وبدأت السموم تتسرب في جسده، وتذبذب حركته، قُرِحَ جسده، وثَقُلَت نفْسهُ، فشَعَر بالمنيّة.. ولكن، بينما هو سائراً على أحد التلال، إذ رأى قبراً في قمته.. فسأل عن الميّت، فعلِم إنه لامرأة لا يُعرف عنها شيئاً.. مجهولةً وسط القمة..
ففكر قليلاً، واستلقى بجانب القبر، ناظراً فيها بألمٍ معلول.. فأنشد:
أجارَتَنا إنَّ الخُطُوبَ تَنوبُ
وإني مُقِيمٌ ما أقامَ عَسِيبُ
أجارَتَنا.. إنّا غَرِيبَانِ هَهُنَا
وكُلُّ غَرِيبٍ للغَريبِ.. نَسيبُ
فإن تَصِلِينَا فَالقَرَابَةُ بَيْنَنَا

وإنْ تَصْرِمِينَا ..فالغَريبُ غريبُ
أجارَتَنا ما فاتَ لَيْسَ يَؤوبُ
ومَا هُوَ آتٍ في الزَّمانِ.. قَرِيبُ
ولَيْسَ غريباً مَن تَناءتْ ديارُهُ
ولكنَّ مَنْ وارى التُّرابُ (أطال في نظره).. غَريبُ
ثم قال: لم اشئ ان أعقِد لساني عليها، ولا أنْ اهجرها بعد هجران الحياة منها.. فإن حَضَر الحِمام فليكن، ولتكن آخر الأيام بيني وبينها وكأنّها كل أيام الحياة الباقية.
نظَر في يديه وهو باقٍ مستلقٍ، فرأها متورمة، فنظر الى القبر، وحال نظره عنه، قائلاً: لم أرد أن أقبِلَ بيدي هذه عليكِ..
فنَظَر الى السماء، وكانت الشمس مشعّة، والاجواء حارة، فأغمض عينيه، ودون أن يشعر، إذ أرتمت يده المتورمة على القبر..
ومن ثم.. انتفض صدره فجأة! فَفَتح عيناه فرأى نفسه في صحراء واسعة، وقد تجلى من الشمس نوراً ابيضا ناصعا يضيء الكون، أَلَمَّ هذا التجلي بسكونٍ في النّفس فانطلقت ريح البليل تداعبه من كلّ جانب، ورمَق يديه فإذ هي مبروءة من العِلل! فتفحص جسده وإذ هو معافىً من السقم!
فضحك، وفرح، وقفز على ثورةِ الشعور الهائج، حتى.. رأى على بُعْدٍ.. امرأة تنظر في الفراغ الشاسع امامها.. فرمَقها ببصره، وسار نحوها، حتى وصل خلفها.. فرأى شعرها من الخلف يداعبه نسيم الصبا، وكانَ جسدها يشع بياضاً هادئاً، فلمَا التفّت بوجهِها إليه، خمد الشعاع، بابتسامتها..
سرّح امرؤ القيس في وجهها، فابتسمت بفاهها بسمةً، بيّنت لون الورد منهُ، وضاع منه طّيْباً يُرى بدلاً من الشّمِّ..
ولكن، وما لفَت امرؤ القيس.. عيناها.. لقد كانت بؤبؤتها حمراء مائلة الى السواد، فلم يشهد أحدٌ سواه حتى الان، مثلُ هذه العينين..
فقالت ضاحكة تشير بسبابتيها على عيناها: أأفْزعتك؟
فتلعثم امرؤ القيس، ومال برأسه مستغربا من نفسِه، فنظر إليها قائلا: لا والله..
فضحكت بخجل شديد.. واحمرّت وجنتاها.. وظلّ امرؤ القيس مبهوراً عن هذا الأثر، هذا الجمال، الذي لا يلمَسُه سواه، ولا يراه أحد غيره إلاّ من القلب..
وقال: ليست من عادتي التلعثم، ولا ان يُطْبِق فمي فلا يُنطَق، ولا ان أسرِح فأُغْفَل.. وما ادراني، لعلي هاهنا، (نظر حوله) لستُ سوى بين الموتِ نفسهُ..
ابتسمَ طرف فاهُها، فأشارت على جانبه، فرأى خوان على الأرض بِها فخار، وتّورٍ من الطّيب.. فصار صوبه، وتفحص الفخار، فالتفَّ إليها مُسرعاً قائلا: ألذُ أنواع الرّاح!
فظلت تنظر إليه مبتسمة، ثم أخذ التّور وكانَ فارغاً، وصبّ فيهِ النبيذ، فقالت مقاطعةً صبّه: تسكبهُ في التّور؟
فلما فرغ من صبه اقترب نحوها وقال: أمَا يخرجُ مِنه إلاّ الطيب؟
فابتسمت والتفت الى الفراغ الهائل المحيط حولهم.. وقالت: أرى فيكَ مما لا ارى في الناس، وقد تمنيتُ أن أرى في الناس مِثْلَ ما رأيت فيَّ الآن..
هبّت ريح قشعرت بَدُن امرؤ القيس فردّ مُبصرا الى الساحة الشاسعة: وما كانوا يروا فيك؟
المرأة تبصر الى الفراغ: أبنةُ شيطان، وعفريت..
أخرج امرؤ القيس زفرة سخرية وهو يشرب: لو كانوا يعلمون أنّ الجن يلقون الشعر لَمَا تحدثوا في الجمال شيء.
نظرت بطرفها وبسخرية: أحْسَبُ أنك تلقّنت الشعر منهم؟
فرغ الخمر من التور فأقْلَبَه محاوِلاً استشفاف آخر قطرة: لِنَقُل فقط إنّي أُدرك ما يدركون.. وأرى ما يرون، (ونظر إليها) وأرى احيانا مما لا يرى الانام كله..
زفرت نفسا طويلاً، فقال امرؤ القيس وهو يقعى على الارض: تحدّثي.. أرى في عينيك الكثير من الكلمات..
فنظرت إليه: مثل ماذا؟
امرؤ القيس بثقب: مثل أن نرى الشفق ينساب من الشمس..
فردت ساخرة: واين الشمس عني؟
اشارَ إلى نفْسِه..
فضحكت وقالت: أنتَ شاعرٌ بالفعل..
ابتسم بطرفه، واقبلت عيناهم تغوص في عين الآخر، فقاطعتها المرأة قائلةً: وإن كانت الشمس تسطع في كل حين، إلاّ إنّها (نظرت فيه) لم تجيء مرةً في داري، فارتأيت أن اجوب لشمسٍ أخرى، تُسمى الارتحال، او الحياة، او الموت.. مجموعةٌ من الكلمات تعبّر كلها عن الوحدة..
ظلّ ينظرُ إليها، فأكملت: ما زلت شابةً كما ترى، أتَبَصّرُ بجمالي دونَ الورى، أحِس، وأشْعُر، بل أفهم، عما يتبدى الجمال ويَطِلُّ بِه، في لُبِّه المكنوز في الدّرر، والمُخبّئُ في جوف الأصداف.. احتجت أن ألِج في عُمق البحار، ففي ادراكي عن الدّرر، والجواهر الثمينة، التي تتنفس بصبح الشمس، وهمسات الليل الدافئة، أردت أن.. أن أقبِضَ على دّرةٍ تجعلني أحِس بما فيها فيّ أنا.. أنْ أحِسُّ أنّ جمالي ليس مرهوناً بجسدي ولا عيناي، بل بقلبي.. وما نافَ وجعي سوى إنّي أدرك أنّي في الظاهر مرآة للجمال، ولكن الجمال عنهم مغفول يا حُندُج.. كأنني شمسٌ لا تضيء، وقمرٌ لا يبرز، ونجمٌ لا يسطع.. خَمَدت يا حُندُج.. خَمَدت.. فاعتزمت الرحيل، ولما ظعنت وسبقت الدار بمسافة، ضِعت.. فرأيت نفسي هنا، في هذه التلّة، واحاط بي رجالٌ يظهرون الخوف في أعينهم، حتى انتفّ الأمل من قلبي، فمِتُّ من الخوف..
فقام امرؤ القيس مصدوماً: أنتِ صاحبة القبر؟!
فأومأت رأسها بنعم، والدموع تذرف من عيناها..
فأشار إليها بيديه بهدوء: لقد صِرنا أقربُ من الجيران..
فضحكت مع دموعٍ هاطلة واشارت برأسها نعم..
فأكملت: وعندما سمعتُ الشِّعر، شِعْراً أُلقى لأجلي، نُطِق لأجلي، لأجلي فحسْب دونَ الأنام كلهم، لم أسمعهُ بلسانك يا حُندُج، بل بقلبك، فكأنّك الدّر من الأصداف تنطلقُ..
سَكَن امرؤ القيس.. وقال: لم أكن لأرغب ان اكفأ هذه الأمنية عنك، ما كنتُ حيّاً، أو ميّتاً..
فابتسمت وأطلقت نَفَسَاً وأعادت: أرى فيكَ مما لا أرى في الناس..
فمسحت دموعها بخجل.. واقشعرّ بدنُها.. فنظرت إليه، وقالت: ايها الملك الضليل.. (فضحِكت بخفّة فأُسِرَّ امرؤ القيس) أرى أنك اضللتني بنظراتك، هلّا ترفق بي قليلاً؟
تبصّر بثقب ثاقب فيها، وكأنها هدف اراد نيله، فقال: أبداً..
وأكمل: أمَلُ ان أكونَ قد أتممت ما أمَلْتِ بهِ، ولكن.. هلّا تُحققي ما اؤمِلُ بهِ؟
فابتسمت ابتسامة فرحة: برحبٍ وسعة!
فاقترب منها، ودنا.. ودنا.. وقرّب فاههُ إلى فاهها، فأغمضت المرأة عيناها، وشعرت بقبلة امرؤ القيس فيها.. فتلاصقت شِفافم، وكأنّ الدّر لا ينفصل عن الصّدْفِ..
فشُعّت اجسادهم سواء، وانطلق بهيجٌ ابيضٌ ينبعث منهم، فغُمِرَ الكون كله بنورهم، وتلاشى في لحظة.. لحظة تمازج الدّر بالصّدفة، لحظة تمازج الشفق بالشمس، والقبلة بالقبلة..

اقترب الناس الى امرؤ القيس، فرأوه يحضن القبر ميتاً، فدفنوه بجوار المرأة.. المجهولة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في ذمّ القُرّاء

سِر (قصة)

اللحظةُ المُرادة (قصة)