ذِكرى مورّقِة

موسيقى 


يسرد السارد: 

"في أحدِ الكُتَل الأرضية التي لبَدت الأشجار والنباتات فيها وفي كل مكان، بل وحتى اخترقت مُنسابةً بين ثنايا جدران المباني الصدئة، إلى أنّ صدوعها باتت تخرج منها ورود الياسمين، فاشيةً عنها عبَقاً يضوع الأزقّة، فالأمْكنة، فالأرجاء، تنزع الهمَّ ما ينزعهُ هو ذاتَه بالأمَل..

تهطل الأمطار فتصيب الأرض، فترتج، فتحمل مياهها الى مجرى موصّلٌ للأودية، كأنّها تعيد ما كانت عليه سالِفاً، وتؤوب عن الكوارث التي مضت بفعل الإنسان، الذي ما فتئ ماضيًا فاتِكاً بأي شيء يلمسه، فيحيلهُ من حالٍ الى حال..

اكتبُ في مذكراتي آثاراً قد تمحو عن اواخرها في ذاكرة التاريخ.. فلا يشفع في الوجودِ شيءٌ كخمودِ نيرانٍ كانت في أصلِها نورٌ، تُرشِدُ وتُجيب..

لقد مرّت على الكارثة أكثر من ثلاثين سنة، والعالَم مخملٌ في ذاته، والناس إمّا مقاومين، او.. متحولين..

انتشر الوباء الفيروسي حتى قضى على معظم سكان الأرض، فتبقى من تبقى على أثارةٍ من حديد، فصار الأبن يقتل اباه المتحول الى كائن لا يهمه سوى ان يقتات على أي شيءٍ متحرك، بات ميّتاً، لكن الفيروس يحرّكه..

فتبدلت الأحوال، حتى الأخلاق، حتى الأفعال صار معقولة، بل مفهومة.. بل مجبورة! شهِدتُ على أكثر مَنْ قَتَل المصابين كانت اول قتْلةِ مصابٍ لهم لإنسانٍ مُقترنٍ بدمائهم، أو يضخُّ في قلبه الحب الذي يكنّه لهم، فإمّا متزوجين، عشّاق، أخوان، أبناء أو أهل.. لقد كسَر هذا معظم الناس، حتى ما بقي في سائر قلوبهم سوى الخواء، الذي يطرق الى فكرة الفناء، فإمّا مستسلمٌ لها، أو مقاوم..

اشتمّ رائحة الياسمين من سطح البناية، وفي جانبِ العديد من الحراس الذي يحرسون المنطقة، كلٌّ في همّه وسريرته..

أحبُّ أن تنفذ رائحة من روائح الطبيعة الى كياني، بعد ما أُفرِعْتُ بنتانة الموتى، لعلّ شذاً من هيام الطبيعة يصدُّ الذّفر.

فيما بقى من ذِكرى تشدني، ذِكرى الكيان الأعلى.. الوحش ذو العين اللامعة..

كانت نقطة انطلاقة وباء الفيروس من الولايات المتحدة، تحديداً ولاية نيو يورك في مدينة مانهاتن التي أقطن بها. وكنتُ اجري في يوم حار، تمرينٌ يدبّ الطاقة في نفسي، أحببتُ الركض، إنه التمرين الوحيد الذي يسبق الأفكار التي تسوئني..

سنترال بارك، حديقة في قلب نيو يورك، يحتار المرء من جمالها، فيحسبها غابة مصغّرة في منطقة مكبّرة، وما من مأساةٍ بأسوأ ان تكون إلا ان يداهم الوباء اول مكان في الكون، حديقة سنترال بارك!
لقد هبّت علينا طائرات حربية راميةٌ قنابل ما إن سقطت هذه القنابل أطلقت دخانٌ أحمر، وما إن يستنشق المرء الدخان يُحوّلُ الى الوحش، او الكائن الميّت، أو بعضهم يلقّبهم "بالزومبي".

 أشرعتُ في تغطية انفي حالما رأيت الناس يتذبذبون بالأرض، ويتقلقلون حتى يتحولون، علمت أنهم استنشقوا الدخان، نزعت ردائي فغطيت أنفي فيه.. وبتّ أركض، الرياضة التي اتقنها، وما صدمني ان الدخان قد اجتاح أصلا المناطق التي تبعد عن مدينتي، فرَنُّ هاتفي بإنذارٍ حكومي معلنٍ عن حرب فاشية، وآمراً على مكوث الناس في منازلهم حتى اشعارٍ آخر..

رأيتُ السيارات تتفجر، الوحوش يأكلون الناس، الوحوش تطاردني، انتقلت من بُقْعة لبقعة، من بقعة عسكرية، الى بقعة مسوّرة، الى أحْصِنة، الى منازل، الى غابات، الى مشفى، الى كل بقع الأرض وفي كل بقعها.. قاومت وقاومت.. وحاربت وحاربت.. وقتلت..

الى أن رأيت طفلة تستجير بمن حولها، طلباً للنجاة، سعياً لإغاثتها.. وقد حام على قُربٍ منها جلبة تصدر من الوحوش، فخاف الناس، وتركوا أمرها الى أيدي الوحوش، او.. الى انيابهم التي تمزق كل شيء..

لكن.. إنْ ما تبقّى في شيء من قلب الانسان سوى ان يكونَ انسانا في عالمٍ خلا منه.. استجاب قلبي في اغاثتها، ولأول مرة لم أبَه، لأول مرة، أحببتُ الموت على الحياة.. من أجلها.. من أجل ان لا أنسى ابداً.. ألاَّ أكونَ انساناً..

ركضتُ! ركضت صوبها، ولكنيّ صُدمت بجمهور غفير من الوحوش يجنحون نحوها، فركضنا سِواء، جمهور وحشي يجنح صوب لحمة، وإنسانٌ يجنح صوب إنسان..

حتى يهوى وحش ضخم من السماء الى الأرض يفصل الطفلة عن الوحوش، فيتوقف جميع الوحوش، وأراني قد مثِلت امامها، وأمامهُ..

فيذعن جميع الوحوش لهذا الكيان العالي، الذي بات على شاكلتهم سوى إنه.. لم يكن ليطمح ان يلتهمها..

إنهم لا يفطنون، لا يفكرون، لا يعون! لقد رأيتهم يلتهموا البشر ولا يفرّقون بين حديث سنٍّ او عجوز! ما الذي يجري إبّان وجود هذا الكيان المختلف.. لمِا يخضعون له؟! أهم... يفهموه!؟

فلمّا التفت صوبنا، التقت عينانا، وفي غضون تلك الثواني.. رأيتُ إنساناً.. رأيت عيناً إنسانية من وحش! لقد فَنَت تلك الأعين من الناجين، تلك اللمعة التي تبرق بالخيرات، فتعرف منها الخير من الشر، الصالح من الطالح.. رأيتها في عين وحش! عين وحش لعين!!
لم أقوى على تصديق ما رأيت، إن جميع الوحوش خاليِ الفكر، بأعينٍ شبه ممسوحة، ترى ولا تبصر.. إنهم كالحيوانات.. لكن ذاك.. عيناه تتلألأ بالنجوم..

حملت الطفلة وركضت، ركضت بكل سرعة، وأدمعي تنهمر، لا من أثر الخوف، بل من أثر اللمعة التي فقدها الناس، بعد فقدهم بالأمل..

وما إن وضعتها هبّت رائحة الياسمين من جسدها، فرأيت وردة ياسمين مربوطةٌ على شعرها.. لقد غرزت تلك الوردة رائحةً تحميني من عاصفة تهويني الى دركٍ سحيق.."

 

يتوقف السارد عن الكتابة حالما يبصر بفزع بجمهور غفير من الوحوش يقتحم المبنى الذي هو فيه، فلقد تغلغل بالكتابة حتى غفل عن واقعه، فرأى الطفلة التي انقذها وقد باتت كبيرة وهي فوق احد الاسوار ترمي برصاص النيران على الوحوش، وقد تسلّق بعض الوحوش وانقضوا عليها، فألقى بدفتره ثم صوّب ببندقيته عليهم وأطلق النيران فأصابهم، ثم سمع جلبة الوحوش خلفه، لقد قضوا على أغلب الحراس! لكن لم يعِر بالاً بالوحوش، فقد كان يريد ان يحمي الطفلة التي رآها لأول مرة، أراد ان يكونَ احسن من ذلك الكيان العالي، ولو على حياته!
ولمّا نفذت ذخائره صرخ بأعلى صوته! : طفلة!!
فلما التفت الطفلة رأته على حافة السطح رافعاً دفتره صائحاً: أنا أفضلُ من الوحش!
فزلَّ قدمه متعمداً من بعد وصول الوحوش الى السطح.. حتى انتهى الى الهاوية.. حاضِناً دفتره.

 

النهاية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في ذمّ القُرّاء

سِر (قصة)

اللحظةُ المُرادة (قصة)